يوم الاثنين 17 أبريل كانت الحركة غير عادية في مطار الكفرة في أقصى جنوب ليبيا على الحدود مع السودان. قد تم تبديل الحراس المعتادين وتم تعويضهم برجال أمن جدد وافدين على المنطقة. عمال شحن في حركة نشيطة نحو طائرة الشحن الاستراتيجي إليوشن الوحيدة المتواجدة على مدرجات المطار شبه المهجور، ومهمتهم تحميلها بكافة أنواع الذخيرة المتوفرة من أجل إرسالها من ليبيا إلى السودان، لتعزيز إمدادات الجنرال حميدتي في حربه التي أعلنها ضد القوات المسلحة السودانية بقيادة حليفه السابق الجنرال عبد الفتاح البرهان.
الإمدادات العسكرية من مطار الكفرة تشرف عليها قوات تابعة للجنرال خليفة حفتر بقيادة الكولونيل حسن الزادمة قائد الكتيبة 128 والمكلفة بحماية الجنوب وخاصة الحدود السودانية الليبية، وبذلك يثبت الجنرال حفتر أنه صديق وفي لحميدتي الذي سبق ودعمه في حربه الفاشلة لدخول العاصمة طرابلس وتوحيد ليبيا تحت حكمه عام 2019.
وبعيدا عن الدعم في الحروب ورد الجميل عبر تبادل الذخائر القاتلة، فإن الرجلين تربطهما علاقات ومصالح متشابكة تقوم على النفط والذهب وتحكمها رؤية حاكم الإمارات محمد بن زايد لمصير المنطقة، فكلاهما استفاد من الدعم السياسي والمالي السخي لأبوظبي، لكن حفتر فشل وحميدتي يجرب حظه.
خريج حرب دارفور الذي أصبح يحكم ضباط الكليات الراقية
قبل أن يخوض محمد حمدان دقلو حربه الحالية على العاصمة الخرطوم وأبواب قصرها الرئاسي، فإن قصته تليق برواة الملاحم الشعبية القديمة مثل عنترة بن شداد وأبوزيد الهلالي. ومع هذا الأخير يلتقي حميدتي في الكثير من الأشياء والصفات، فكلاهما من القبيلة العربية بنو هلال إذ ينتمي دقلو الذي ولد عام 1975 في ولاية شمال دارفور إلى قبيلة الرزيقات الهلالية من فخذ المحاميد، وانقطع عن تعليمه في الكتاتيب القرآنية في عمر الـ15 مفضلا عليها المغامرة والكسب عن طريق تجارة الإبل والأغنام واستيراد القماش، خاصة بين ليبيا ومالي وتشاد، وقيادة مجموعة صغيرة لتأمين القوافل وردع قطاع الطرق واللصوص في مناطق سيطرة قبيلته، ليحقق حميدتي في منتصف التسعينيات شهرة واسعة في الممرات والطرق التجارية للمنطقة.

ومن ثروة التجارة وزعامة القبيلة تأتي طريق السياسة، حيث لفت الشاب الجسور انتباه السياسيين السودانيين الباحثين عن تشكيل تحالف يضم قبائل المنطقة مع الجنجويد من أجل مواجهة التمرد في إقليم دارفور عام 2003، حيث استقطبت مليشيا حميدتي عناصر من الجنجويد وبدأت التقارير حول الشاب النحيف بشاربه الدقيق ونظراته الرخوة الحازمة، تصل صناع القرار في الخرطوم، وخاصة حينما أطلق عملية استقطاب واسعة أبناء القبائل المختلفة بمنحهم رواتب مشجعة وإنقاذهم من الفقر والجوع، حتى استطاع تشكيل قوات شعبية كبيرة التقطها الرئيس السابق عمر البشير بدهائه المعهود ومنحها اسم “وحدات استخبارات الحدود” ولم يجد طبعا أحسن من حميدتي ليعينه قائدا عليها.
ومن هنا انطلقت مسيرة صعود حميدتي التي لم تبدأ بميل كما العادة، وإنما بالألف ميل مرة واحدة. فقد تم منحه رتبة كولونيل ماجور استثناء من دون ان يتخرج من أي كلية عسكرية، وإنما من حرب دارفور الميدانية، وضمت قواته إلى جهاز المخابرات السوداني، ثم في عام 2013 أعاد هيكلتها عمر البشير وسماها “قوة الدعم السريع”، وجعلها كيانا رسميا شبه عسكري بقيادة حميدتي الذي منحه البشير صلاحيات وامتيازات كبيرة جرت معها كذلك حسدا كبيرا.
لاتنسي ان السبب الاساسي وراء ظهور حميدتي وتصدره للمشهد العسكري والسياسي هو قرار عمر البشير بتحويل مليشيات الجنجويد الي قوات الدعم السريع .#السودان pic.twitter.com/CBMQKv9bJu
— Abdalla Elhillou (@AbdallaElhillou) April 15, 2023
حلفاء في الداخل والخارج.. المهم أن يكون هو الرابح
معرفة حميدتي الدقيقة بمنطقته جعلته يعرف مكامن ثرواتها ونقاط قوتها ومع حس التاجر الحاد ليه، والذي يشيد به كل من تعامل معه، استطاع أن يستفيد منها بشكل مذهل وفي فترة قياسية. استغل سلطاته العسكرية الواسعة وتفويض البشير ليضع يده على مناجم الذهب في جبل عامر بإقليم دارفور حتى أنه في 2017 شكلت مبيعات الذهب في البلاد 40% من الصادرات وأغلبها توجه نحو الأسواق الإماراتية.
وكعادة التاجر حميدتي فإنه يعشق عقد الصفقات المربحة مع الشركاء الأقوياء، ولما أصبح الداخل السوداني لا يرضيه فقد وصل إلى أعلى الهرم وأثبت ضرورته عنده لكن الوقت غير مناسب ليطيح به ويحل محله، لذلك اتجه إلى الخارج ليجد السعوديين والإمارتيين في حاجة ماسة إلى خدماته في حرب اليمن، صحيح أنها بعيدة عن إقليم دارفور بمئات الكيلومترات لكن الضحايا يتشابهون والمصالح لا تعترف بالمسافات.
يتفاخر حميدتي في مجالسه الخاصة بأنه ربح كل صفقة وحرب في حياته
وبالفعل في عام 2015 استطاع حميدتي تطوير علاقاته الخارجية، وأرسل وحدات الدعم السريع فيما يشبه الخدمة الخارجية على سبيل الإعارة، إلى اليمن بعد انضمام السودان إلى تحالف مع السعودية لمحاربة الحوثيين المدعومين من طرف إيران.
قتلا الأب البشير.. ثم انقلبا على بعضهما
تشبه حرب اليمن حرب فيتنام في كل الجوانب باستثناء الندم الأمريكي، فرغم الفظائع والجرائم المرتكبة ومعها الخسارات المتلاحقة فقد خرج منها محمد حمدان دقلو أكثر قوة ونفوذا وثراء.. ومن دون ذرة ندم واحدة وذلك ما يساعده في حربه الحالية لكن هذه المرة داخل بلاده لإزاحة الأخ الأكبر من الحكم بعد أن كان قد أزاح الأب في السابق.
فإضافة إلى حسه التجاري العالي وشجاعته التي تفوق التهور، فقد اشتهر حميدتي بقتل آبائه الرمزيين، بدأ بموسى هلال زعيم الجنجويد السابق ثم ألحق به عمر البشير نفسه الذي كان يلقبه بحمايتي حينما دفع عنه شر مدير المخابرات القوي صلاح قوش، رغم أن البشير هو من عزز نفوذ “قوة الدعم السريع” وجعلها مركز قوة موازية للجيش، تفاديا لأي انقلاب عسكري عليه، ومنح حميدتي ترقيات عسكرية استثنائية رفعته إلى رتبة جنرال، رغم تقارير الانتقاد والتحذيرات من طرف العديد من الجهات.
ومع تصاعد وتيرة المظاهرات عامي 2018-2019، قرر حميدتي التخلي عن البشير الذي بقي حاميا له 15 عاما، لبس قناعا مغايرا تماما ورفض قمع المتظاهرين، كما دعا لإسقاط البشير وكل رجال الحرس القديم، وتقليص الفترة الانتقالية، وطرح استفتاء بشأن بقاء القوات السودانية في حرب اليمن، كما أدلى بتصريحات لافتة دعا فيها الحكومة إلى توفير الخدمات للمواطنين وتوفير سبل العيش الكريم لهم.

سقط البشير وبدأت مفاوضات اقتسام ميراثه بين حميدتي والجيش بقيادة البرهان، وتوصل الطرفان إلى صفقة تولى فيها فيها حميدتي منصب نائب رئيس المجلس العسكري، مقابل ضمانات بقاء سيطرة الجيش على الموارد الحيوية للدولة، وتحجيم أي حكومة قادمة تحاول العكس، وذلك ما حصل مع عبد الله حمدوك فقرر حميدتي والبرهان الانقلاب عليه، ومن خير منهما ليفعل ذلك؟
لكن التعايش بين الرجلين لا يمكن ان يستمر، فهناك قصر جمهوري واحد فيه كرسي رئاسي واحد لا يقبل الشريك، ودائما ما تسعف الشعارات في التعبير عن الطموحات الكبيرة، ولذلك جاء شعار بلد واحد بجيش واحد ليفتح صدري البرهان وحميدتي ويخرج العداوة بينهما من مكامنها ليجعلها تتجول بين ناس الخرطوم وباقي ولايات السودان على شكل دبابات ومدرعات وطائرات ورشاشات تهدد حياتهم وتنغص عليهم فرحة العيد.

يتفاخر حميدتي في مجالسه الخاصة بأنه ربح كل صفقة وحرب في حياته، لكن صفة أخرى تجمعه بأبطال الملاحم الشعبية وهي خسارات الحب الفادحة. فهل تنتهي حربه في الخرطوم كقصة حبه ويلتحق بزميله الجنرال حفتر في الفشل، أم تكون صفقة التاجر الذي حول رمال دارفور إلى ذهب في رصيده؟